بواسطة : أحمد السر | التاريخ: 27 يوليو 2025
الحرب، الدمار، والألم
هذا هو حال السودان منذ الخامس عشر من أبريل الماضي؛ آلاف القتلى والجرحى، وملايين النازحين، فيما يكاد صوت المعاناة يُسمع في كل مكان. لذا نلتمس منكم الدعاء لهم في هذه اللحظات العصيبة.
يعاني السودان، مثل كثير من الدول الفقيرة رغم موارده الغنية، من تدهور كبير في مختلف القطاعات: التعليم، الصحة، الغذاء، وكذلك الكهرباء. وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة التغطية الكهربائية في البلاد لا تتجاوز 40%، وحتى الذين تصلهم الكهرباء يعانون من انقطاعات متكررة وعدم استقرار في الإمداد. لقد أصبحت القطوعات اليومية جزءًا من واقع كل سوداني.
ومع اندلاع الحرب التي دمّرت البنية التحتية للكهرباء، تفاقم الوضع وأصبح أكثر سوءًا وخطورة.
قبل أن نخوض في آثار الحرب على هذا القطاع، دعونا أولاً نستعرض قدرة التوليد ومصادرها. من أين يحصل السودان على إمداداته من الكهرباء
وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي، يمتلك السودان نظامًا كهربائيًا تبلغ طاقته الإنتاجية 3,500 ميغاواط، يتم توليدها من مصادر حرارية ومائية، بالإضافة إلى الربط الكهربائي الدولي. يمر نهر النيل، أحد أطول الأنهار في العالم، عبر البلاد، وقد أنشأت الحكومة السودانية عبر السنوات عددًا من السدود ومحطات التوليد على النهر وفروعه.
من أبرز هذه المنشآت:
سد سنار
سد الروصيرص
سد عطبرة وستيت
وأكبرها على الإطلاق: سد مروي بولاية نهر النيل، الذي يولد نحو 1,250 ميغاواط، ما يعادل حوالي 40% من إجمالي إنتاج الكهرباء في السودان.
إلى جانب الطاقة المائية، يعتمد السودان اعتمادًا كبيرًا على محطات التوليد الحراري التي تستخدم الديزل، والفيول الثقيل، والنفط الخام، وتنتشر هذه المحطات في عدد من الولايات.
تساهم هذه المحطات بنسبة 51% من الشبكة الكهربائية، وهي نسبة كبيرة جداً، لكنها أيضًا تعاني من مشاكل متعددة تتسبب في توقفها المتكرر عن الخدمة.
كما يتلقى السودان حوالي 200 ميغاواط إضافية من إثيوبيا ومصر بموجب اتفاقيات حكومية للربط الكهربائي.
رغم كل هذه المصادر، إلا أن الطاقة المتوفرة لا تلبي احتياجات البلاد الفعلية. إذ تُعاني العديد من محطات التوليد الحراري من أعطال مزمنة، ونقص في الوقود والصيانة، مما يؤدي إلى خروجها المتكرر من الخدمة.
في محاولة لتوزيع الكهرباء بشكل عادل – ولو لساعات محدودة – أصبحت الحكومة تتبع سياسة البرمجة والانقطاعات المُنظمة.
ولايات دارفور في الغرب وولاية البحر الأحمر في الشرق تعانيان بشكل خاص من أزمة الكهرباء، حيث تعتمدان على محطات صغيرة خارج الشبكة القومية لا تفي باحتياجات السكان، ما يزيد من تهميش هذه المناطق.
تحاول وزارة الطاقة توسيع الشبكة وتحسين النظام الكهربائي من خلال خطط تطويرية تشمل الاستثمار في التوليد الحراري وزيادة إنتاج السدود والخزانات، وفقًا للبنك الدولي.
لكن، ومنذ عام 2018، تعرقل الاضطرابات السياسية في البلاد تنفيذ هذه الخطط كما هو مطلوب، مما يجعل الواقع الكهربائي في السودان هشًا وعُرضة للانهيار في أي لحظة.
منذ الخامس عشر من أبريل الماضي وبداية الحرب في السودان، بدأ قطاع الكهرباء في التدهور بشكل كبير. فقد خرجت العديد من محطات التوليد الحراري – التي يعتمد عليها النظام الكهربائي – عن الخدمة، وأصبحت عملية صيانتها شبه مستحيلة بسبب القتال المستمر.
تنقل المهندسين إلى مواقع الأعطال بات يشبه "مهمة انتحارية"، خاصة في ظل وجود المعارك المسلحة، دون أن نغفل أيضًا صعوبة استيراد قطع الغيار من الخارج ونقلها إلى المحطات.
إضافة إلى ذلك، تعرضت العديد من أبراج نقل الكهرباء ذات الجهدين العالي والمنخفض إلى أضرار مباشرة نتيجة القصف المتبادل بين طرفي الصراع.
ومع ذلك، فإن مهندسي الشركة السودانية للكهرباء يبذلون جهودًا استثنائية في ظروف غاية في الصعوبة، محاولين إصلاح الأعطال والحفاظ على ما تبقى من الشبكة.
الهجرة الجماعية من مناطق النزاع في الخرطوم إلى الولايات الأخرى ساهمت في زيادة الضغط على تلك الولايات.
فعلى سبيل المثال، استقبلت ولاية الجزيرة في وسط السودان آلاف النازحين من الخرطوم، مما دفع السلطات إلى جدولة انقطاعات يومية وصلت إلى 8-10 ساعات يوميًا في محاولة لمواكبة هذا الحمل المتزايد.
لم تقتصر آثار هذه الانقطاعات المتكررة على المنازل والمرافق فحسب، بل امتدت إلى شبكات الاتصالات.
تعتمد أبراج الشبكة بشكل أساسي على الإمداد المباشر بالكهرباء، وتستخدم مولدات احتياطية في حالات الطوارئ. لكن مع استمرار الحرب والانقطاعات، أصبحت عملية توفير الوقود لهذه المولدات بالغة الصعوبة، ما أدى إلى توقف الكهرباء وتعطل الأبراج وخوادم الاتصال.
تسبب ذلك في تذبذب الشبكة والإنترنت في عدد من المناطق، ووصل الحال ببعض المناطق إلى الانقطاع التام عن الشبكة.
ولا يمكن الحديث عن أزمة الكهرباء دون الإشارة إلى تأثيرها الكبير على القطاع الصحي.
فالكثير من المستشفيات لا تمتلك مولدات كهربائية احتياطية، ومع استمرار القطوعات، يلجأ بعض الأطباء لاستخدام إضاءة الهواتف أثناء العمليات الجراحية، بينما المرضى المرتبطون بأجهزة إنقاذ الحياة لا يملكون سوى التضرع والدعاء.
هذه الأزمة المتفاقمة في الكهرباء تُظهر بوضوح كيف أصبحت الحرب تهدد أساسيات الحياة في السودان.
الوضع في غرب السودان هو الأكثر كارثية. كما ذكرنا، تقع ولايات دارفور خارج الشبكة الوطنية والاتصالات المحلية، لذا تلجأ إلى محطات ديزل صغيرة لتوفير الكهرباء، وفي ظل الصراع المحتدم هناك، خرجت العديد من المحطات عن الخدمة، وتعيش الولايات في ظلام تام يدوم لأيام وأحيانًا لأسابيع.
كشفت الحرب أن قطاع الكهرباء يحتاج إلى مزيد من التطوير، وربما أبرز ما ستُبرزه هذه الحرب هو الحاجة إلى الاستثمار بشكل أكبر في مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
يُعتبر الإمكان الشمسي عاليًا في معظم أنحاء السودان. أما إمكانات طاقة الرياح، فهي تعتمد بشكل أكبر على الموقع مقارنة بالطاقة الشمسية، حيث تكون مرتفعة على طول ساحل البحر الأحمر وفي المناطق الداخلية بولاية الشمالية. ومع ذلك، فإن هذه المصادر المتجددة لا تزال غير مستغلة بشكل كبير. الطاقة الكهرمائية هي المورد المتجدد الوحيد الذي تم استخدامه على نطاق واسع في توليد الكهرباء، حيث ينتج السودان حوالي 2000 ميغاواط من مصادر الطاقة الكهرومائية.
بدلاً من الاستثمار في التوليد الحراري المكلف والذي يعاني من العديد من الأعطال والصيانة بالإضافة إلى آثاره البيئية السلبية، يمكن اللجوء إلى هذه الخيارات المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر في عام 2019، يُقدّر تكلفة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بنصف تكلفة التوليد الحراري تقريبًا.
إذا استثمر السودان في 550 ميغاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فمن الممكن توفير ما يصل إلى 100 مليون دولار سنويًا مقارنة بالاستثمار في التوليد الحراري. وبالفعل، يُقدّر فترة استرداد تكلفة المشروع بالكامل بأربع سنوات فقط.
يمكنك أن تتخيل لو أن المستشفيات كانت متصلة بأنظمة الطاقة الشمسية، وبدلاً من مولدات البنزين، كانت أبراج الاتصالات متصلة بالألواح الشمسية، وبدلاً من محطات التوليد الحراري التي تعتمد على الفيول والديزل، تم إنشاء محطات للطاقة المتجددة.
هذه الخيارات ستوفر بلا شك استقرارًا أفضل في التيار الكهربائي وتوفيرًا ماليًا كبيرًا، كما سيحقق السودان الاستدامة البيئية.
حلّ المشاكل في قطاع الكهرباء بالسودان يتطلب نهجًا شاملاً يعالج ليس فقط التحديات الفورية الناجمة عن الحرب، بل أيضًا القضايا الأساسية المتعلقة بالبنية التحتية غير الكافية والقدرات المحدودة. من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتحسين ممارسات الصيانة، وتعزيز التعاون الدولي، يمكن للسودان أن يبدأ في تجاوز الأيام المظلمة التي ألمّت بقطاع الكهرباء، ويمهد الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا واستدامة.
أحمد السر هو متخصص سوداني في التواصل والدعوة، يمتلك خبرة في سرد القصص الإنسانية واستراتيجيات الإعلام. وهو مؤسس منصة Waats-Up، التي تهدف إلى تعزيز الطاقة المتجددة في السودان وأفريقيا. عمل أحمد مع عدة منظمات دولية وساهم في الوصول إلى آلاف الأشخاص من خلال حملات إعلامية مؤثرة ومجتمعية.